مضت خمس سنوات على الغزو العسكري الأميركي للعراق. وهي مناسبة تدعو الفرقاء جميعاً إلى الوقوف والتأمل. سواء من ناصروا الحرب في البداية من الساسة الأميركيين والبريطانيين، أو من عارضوها لأنها تخالف بشكل صارخ قواعد الشرعية الدولية، ولأن قرار الحرب صدر على أساس معلومات استخبارية كاذبة، تذهب إلى أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، يمكن أن تهدد الأمن العالمي.
لقد استطاعت مجموعة قليلة من المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين المحافظين، صياغة نظرية متكاملة هي شرعية تغيير النظم السياسية الديكتاتورية التي لا يُرضي مسلكها الولايات المتحدة بالقوة العسكرية!
وهذه النظرية الاستعمارية الجديدة، بنيت على أساس مبدأ آخر زائف يقوم على حق التدخل للمجتمع الدولي، إذا برزت أوضاع صارخة في بعض البلاد تهدد بعض الجماعات في قطر ما بخطر الإبادة، أو تخرق بشكل سافر مبادئ حقوق الإنسان المستقرة.
وهكذا يمكن القول إن بروز مبدأ حق التدخل الذي يفتقر إلى أي تقنين في القانون الدولي المعاصر، يعد أحد المبادئ التي ظهرت في عصر العولمة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والذي يهدد مبدأ سيادة الدول في الصميم.
لقد بنت الولايات المتحدة الأميركية مذهب تغيير النظم السياسية كما يدعي خبراؤها الاستراتيجيون، نتيجة خبراتها التاريخية في كل من ألمانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. خضعت كل من هاتين الدولتين للاحتلال الأميركي، وقامت قوات الاحتلال بناء على رؤية استراتيجية محددة بإعادة صياغة دستور كل من الدولتين، والتدخل المباشر لتغيير أنساق القيم السائدة.
وهذه القيم - كما قدرت الولايات المتحدة الأميركية - كانت تنبع من تقاليد شبه عسكرية في كل من المجتمع الألماني والمجتمع الياباني، ما أدى إلى ظهور نمط الشخصية السلطوية، وهذا النمط ميز القيادات العسكرية في كل من البلدين، ودفع بها إلى مغامرات عسكرية مدمرة سواء في أوروبا، والتي أدت إلى اشتعال الحرب العالمية الثانية، أو في آسيا حيث قامت اليابان بحملات استعمارية ضد جيرانها، بالإضافة إلى اشتراكها مع ألمانيا في الحرب ضد الحلفاء.
من هنا نبعت الفكرة في إشاعة القيم الديموقراطية بناء على دستور يعطي اليد العليا للسياسيين المدنيين وليس للعسكريين، بالإضافة إلى تغيير نمط التنشئة الاجتماعية، لصياغة أجيال جديدة من الشباب يؤمنون بقيم الحرية والليبرالية.
بناء على هذه الخبرات قررت الولايات المتحدة الأميركية ضرورة إسقاط النظام السياسي العراقي الديكتاتوري الذي كان يتزعمه صدام حسين، وتحويله إلى نظام ديموقراطي يصلح أن يكون نموذجاً لديموقراطية عربية جديدة، تنشأ على أنقاض النظم السياسية الشمولية والسلطوية العربية.
والواقع أن مبدأ التدخل السياسي من ناحية والحق الأميركي في تغيير النظم السياسية الديكتاتورية من ناحية أخرى، لم يكن سوى إيديولوجية استعمارية جديدة، الغرض منها في المقام الأول السيطرة على آبار النفط العراقية، والتحكم في إمداد الدول المختلفة به، حتى تسيطر اميركا على السوق كيفما تشاء. والدليل على ذلك أن الشركات الأميركية وعلى رأسها شركة «هاليبرتون» التي أعطيت عقوداً بملايين الدولارات أصبحت هي المهيمنة على الاقتصاد العراقي، بالإضافة إلى السيطرة الأميركية المباشرة على النفط.
خمس سنوات مرت على الحرب في العراق سقط فيها للولايات المتحدة الأميركية أكثر من أربعة آلاف قتيل، وعشرات الآلاف من الجرحى، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين الذين فروا من الخدمة العسكرية.
خمس سنوات مرت سقط فيها ملايين العراقيين المدنيين قتلى وجرحى في حرب عبثية لا هدف لها، ولا يبدو أن لها نهاية قريبة. وأدت الحرب - بالإضافة إلى التدمير الكامل للعراق - إلى أن يصبح موئلاً لأشد العصابات الإرهابية تطرفاً ودموية.
لقد اختلط الحابل بالنابل، وأصبح من المستحيل التفرقة بين قوى المقاومة العراقية التي هبت للدفاع عن العراق ضد قوى الاحتلال، والعصابات الإرهابية التي تنتمي إلى عديد من التوجهات الإيديولوجية، والتي تمارس قتل العراقيين بلا تمييز، وبغير هدف واضح، كل يوم تنفجر قنبلة هنا أو هناك، ويسقط مئات القتلى والجرحى من أبناء الشعب العراقي الأبرياء.
والواقع أننا نحتاج إلى أن نقف وقفة نقدية لتحليل النظام السياسي الأميركي الذي سمح لمجموعة «المحافظين الجدد» باختطاف النظام السياسي الأميركي نفسه، عبر انتخابات مشكوك في صحتها، أدت إلى تولي جورج بوش الابن الرئاسة, وهو يفتقر بشكل واضح الى الثقافة السياسية في من يحكم الولايات المتحدة الأميركية أقوى دولة في العالم، والتي تؤثر قراراتها الدولية والسياسية والعسكرية على العالم أجمع.
استطاعت جماعة «المحافظين الجدد» الاختفاء وراء رئاسة بوش واتخاذ قرار الغزو العسكري للعراق، من دون دراسة كافية للآثار التي ستترتب على الحرب.
وفي هذا الصدد يقرر انطوني كوردزمان الخبير الاستراتيجي الأميركي الشهير أن إدارة الرئيس بوش غزت العراق وهي تجهل جهلاً تاماً التركيبة البشرية والثقافية للشعب العراقي، ومن ناحية أخرى تم الغزو وتحقق في غياب أي خطة لكي تنفذ في العراق بعد الغزو. وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية استطاعت عبر انتخابات صورية أن تنصب في العراق حكومة عراقية عميلة لها، إلا أنها لم تستطع تحقيق الأمن لا للشعب العراقي، ولا لقواتها العسكرية ذاتها التي يتساقط منها العشرات قتلى وجرحى كل يوم. وقرر عديد من المحللين الاستراتيجيين أن الولايات المتحدة الأميركية أصبحت في موقف بالغ الحرج، باعتبارها قوة عسكرية عظمى تأخذ اللطمات كل يوم من جماعات المقاومة العراقية، ومن المنظمات الإرهابية في الوقت نفسه. فلا هي قادرة على البقاء في ظل وضع أمني هادئ، ولا هي قادرة على مغادرة العراق.
ولذلك وتحقيقاً لأهدافها الأصيلة من الحرب وهي السيطرة على آبار النفط، اقترحت الولايات المتحدة الأميركية على الحكومة العراقية أن تعقد معها اتفاقا يسمح للقوات العسكرية أن تبقى في قواعد عسكرية بعيدة عن المدن لمدة طويلة، أو لنقل لأجل غير مسمى. أو بعبارة أخرى إلى أن يحصلوا على آخر برميل نفط عراقي.
ومع قرب انتهاء فترة ولاية الرئيس بوش وبانتظار تسليمه الرئاسة لمن سيحصل على الأغلبية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن الرئيس الجديد سيرث في الواقع وضعاً بالغ الخطورة. ذلك أن عليه، بالنظر إلى اتجاهات الرأي العام، وضغوط الحزب الديموقراطي وحتى بعض أجنحة الحزب الجمهوري، أن يواجه المهمة الثقيلة التي تتمثل في الانسحاب من العراق بطريقة غير مهينة، لا يظهر منها أن أكبر قوة عسكرية في التاريخ الحديث هُزمت هزيمة ساحقة، لا تقل عن هزيمتها في حرب فيتنام.
ولعل الرئيس الأميركي المقبل يستطيع أن يعيد النظر في الاستراتيجيات الاستعمارية العدوانية التي تطبقها الولايات المتحدة الأميركية ضد الدول التي تحددها باعتبارها دولاً عدوة، سواء كانت هذه الدول جزءاً من «محور الشر» الذي كثيراً ما أشار إليه بوش أو لا.
العالم ضاق ذرعاً بالسياسات العدوانية الأميركية، بما في ذلك حلفاؤها الأوروبيون، الذين لا يرون في السلوك السياسي الأميركي إلا أنه منبع الخطر في الواقع على السلام العالمي.
ترى هل تستطيع النخبة السياسية الحاكمة الأميركية تغيير الاتجاه، أم لا بد، كما قرر الكاتب الأميركي المعروف غور فيدال من قبل، من شن حروب أميركية دائمة لتحقيق السلام الدائم!